العراق 2020: خصخصة الوطن أم تأميمه..؟!

فارس كمال نظمي 2020/01/02 08:24:58 م

العراق 2020: خصخصة الوطن أم تأميمه..؟!

 فارس كمال نظمي

بانوراما الشهور الثورية الثلاثة الأخيرة من سنة 2019 بكل عنفوانها ومنعطفاتها ومفاجآتها، تمثل أنموذجاً مكثفاً للمواجهة الحاسمة التي ستشهدها سنة 2020 بين دعاة الوطنية العراقية ودعاة تصديرها إلى المجهول.

هذه المواجهة التي بانت ملامحها الأولى مع انطلاق الحركات الاحتجاجية في 2010 ثم اشتدت في الخريف الماضي، لا يمكن فهمها أو تفسيرها أو التنبؤ بها دون الإمساك بجذرها الديني السياسي.

فليس جديداً أن أكرر أن الإسلام السياسي يعدّ كارهاً (بل هادماً) لفكرة "الوطنية"، مستبدلاً إياها بفكرة الولاء الغيبي لقدسياتٍ مُتخَّيلة تقبع خلف الحدود العابرة للاوطان transnational (دولة الخلافة أو الإمامة). فإعلاء المفهوم الهوياتي الجامع للوطن يعني قبولاً نفسياً ضمنياً بتجاورٍ آمن بين كل النقائض العِرقية والدينية والمذهبية والعقائدية والطبقية. وهو ما يقع بالضد تماماً من ايديولوجيا الأسلمة السياسية القائمة على مسلمتي "احتكار" الحقيقة، وامتلاك "مشروعية" تولي زعامة المجتمع بكل تنوعاته التكوينية المتمايزة.

ومع ذلك، ورغم الخطيئة الكبرى للاحتلال الأمريكي بتأسيس العملية السياسية في 2003 على أسس طائفية- عرقية، فقد سعت فئات من الشيعة السياسية العراقية عبر الستة عشرة عاماً الماضية إلى أن تعيدَ موطنة عقائدها تدريجياً لتتبنى تشيعاً عراقياً "وطنياً" بنسبة مهمة وإنْ كان لا يخلو من الفساد والشعبوية والمَلْيَشة، فيما غامرت فئات أخرى لتجعل من التشيع ايديولوجيا عابرة للوطنية، مرتبطة بمصالح دولة ثيوقراطية نجحت بإنتاج إسلام قومي هي إيران.

هذا التباين بين شيعة "وطنية" وشيعة "عابرة للوطنية"، اتخذ بمرور الوقت، وبعد هزيمة داعش، منحى صراعياً حول الموارد والنفوذ بحكم هيمنة الأحزاب الشيعية على معظم مفاصل السلطة، وصل ذروته في تشرين الماضي حينما انتفض فقراء الشيعة الشباب (ممن انفصلوا وظيفياً عن الشيعة السياسية) مستعيدين الذاكرة الحسينية الثورية بوصفها وعياً طبقياً ووطنياً حداثياً، لا مادة عقائدية للتعصب المذهبي الطارد للآخرين.

هذا التناقض الطبقي داخل الإطار الشيعي السكاني أنتج حراكاً عراقياً عاماً لاستعادة الوطن بوصفه الحاضنة الكبريائية التي تجمع هوياتِ كل المحرومين والمتضررين من الإسلام السياسي، أي أعاد إنتاج المسميات الإثنية لتتخذ تمظهرات وطنية. فكان ذلك تحولاً مفصلياً يضاف لسلسلة تحولات الهيمنة الثقافية المستمرة من الأسلمة إلى الوطنياتية، في المجال العمومي للجزء العربي من العراق، طوال السنوات العشرة الماضية.

ولذلك صار يمكن اختزال الصراع الاجتماعي السياسي في العراق اليوم (في مرحلة مغادرة الطائفية التقليدية) بأنموذجين متفاعلين جدلياً هما: أنموذج (المالكين- الفاقدين)، وأنموذج (الوطنيين- العابرين للوطنية). وهذا الصراع الداخلي المتصاعد ظل متأثراً في تطوراته بما يوازيه من صراع أمريكي- إيراني ذي أبعاد جيوسياسية تناحرية تتعلق بعوامل الهيمنة والنفوذ.

إلا أن أصل الصراع وجوهره سيظل نابعاً بالأساس من العوامل الداخلية المشار إليها، إذ لولا هذه العوامل ذات الطابع الإسلاموي الذي سمح بنشوء القوى العابرة للوطنية، لما تحولت أرض العراق الى ساحة مكشوفة لحسم الصراعات بين أمريكا وإيران.

إن ما يحدث منذ تشرين الماضي حتى اليوم، وإلى قادم الأيام، هو فصول متلاحقة مما يمكن تسميته بالمواجهة الحاسمة متعددة الاحتمالات والمسارات بين قوى الاحتجاج السلمي المستميتة التي تسعى الى "إستعادة الوطن وتأميمه" (أي إكساب الوطن صفة الأمة ووظيفتها)، وقوى ما دون الدولة التي تسعى الى "خصخصة الوطن" وتصديره إلى ما وراء الحدود.

أما نتالج هذه المواجهة فستحددها بشكل أساسي عوامل الداخل: مديات اشتداد الوعي بالظلم الاجتماعي وبزوغ الهوية الوطنية، أكثر ما تحددها عوامل الخارج: الفقيه الإيراني والتاجر الأمريكي.

Top