طلبة العراق: خط الدفاع الأخير في إنجاح تظاهرات تشرين

طلبة العراق: خط الدفاع الأخير في إنجاح تظاهرات تشرين

 رعد أطياف

المجتمع المنظّم هو الأكثر قدرة من غيره على إحداث الفارق. والطلبة هم "المجتمع المصغّر" والأكثر تنظيمًا وحيوية، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل: أولًا، يشكّل نواة المجتمع التقدمية، لأنه خليط من طلبة الدراسات الأولية والعليا، أضف إلى ذلك وعيه المتقدم بالمرأة مقارنة بمختلف الفئات الاجتماعية الأخرى، نظرًا للاختلاط والمشاركة بمختلف الفعاليات والأنشطة الأكاديمية بين الجنسين.

ثانيًا، يشكّلون الجيل الذي يرسم معالم المستقبل القادم ومحاولة إحداث قطيعة مع أدبيات الماضي التي لم تعد مقنعة أو تناغم تطلعاتهم. ثالثًا، يمتلكون الرغبة والاندفاع الكاملين للتغيير الاجتماعي والسياسي، وعادة ما يكونون خط الدفاع الأخير في عملية التغيير.

إن طلاب العراق يشكّلون الجيل الطليعي والخط الأمامي في المستقبل الذي قد يوحّد الهويات المتباينة تحت مفهوم المواطنة. وهم في نهاية المطاف أحد العناصر المكونة للبنية التحتية للتغيير. لذا لم يبق الكثير من الأمل للنظر إلى باقي فئات المجتمع العراقي سوى الطلاب رغم التحديات التي يمرّون بها والضغوطات التي يتعرضون لها بين الحين والآخر.

لمحة تاريخية سريعة

يسجّل التاريخ أن حراك الطلبة عام 1968 هو الحدث الأبرز في تاريخ الحركات الطلابية. وهو العام الذي شهد احتجاجات طلابية في ألمانيا على إثر اغتيال أحد قادة الحركة الطلابية. وفي المكسيك اغتالت السلطات 100 من الطلاب لكي تضمن إقامة الألعاب الأولمبية على أراضيها دون احتجاجات طلابية.

قبل هذا التاريخ، شهدت أيضًا حركات طلابية ومنها الاحتجاجات الطلابية الأمريكية تنديدًا باجتياح فيتنام، ومنها الاحتجاجات التي عبّرت عن سخط الطلاب من المناهج التعليمية المحافظة، والمطالبة بالسكن المختلط بين الجنسين.

غير أن الاحتجاجات الطلابية الفرنسية عام 1968 هي الحدث الأبرز، إذ قام طلاب اليسار بالتنديد ضد سلطوية الدولة والقمع المستمر لفئات الشعب المختلفة. وكان السلوك العام لهذه الاحتجاجات هو السخط العام على الأوضاع السياسية والاقتصادية للبلاد.

وأقدم وزير التعليم في حينها على إغلاق جامعة السوربون الأمر الذي ضاعف عدد الاحتجاجات حيث قام آلاف الطلبة بالنزول إلى الشارع. ولقد انضم آلاف العمال لهذه الاحتجاجات وسارع الطلاب باحتلال أحياء سكنية وأقاموا المتاريس للدفاع عن أنفسهم، وأقامت نقابات العمال بالإضراب التام عن العمل واحتل الطلاب جامعة السوربون.

على إثر هذه التداعيات أعلن الرئيس ديغول عن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وقد فاز في الانتخابات، إلا انه لم يكمل عامه الأول؛ فقد أزيح عن السلطة عبر الاستفتاء بعد فشله بالترويج لإصلاحاته الجديدة وسط الجموع الغاضبة.

وبالطبع لا ننسى المذبحة الصينية التي راح ضحيتها آلاف الطلاب والعمال المتمترسين في "الميدان السماوي" الذي يعد من أهم ميادين العاصمة بكين. وقد كان الدافع الأولي لهذه الاحتجاجات هو التنديد بتزوير الانتخابات المحلية واتسمت هذه الاحتجاجات بتأييد جماهيري واسع في وقتها. وبسبب هذا التأييد امتدت الاحتجاجات لعشرين مدينة صينية و150 جامعة، وكان محور هذه الاحتجاجات هو شنغهاي وبكين.

وهنالك الكثير من الأحداث الطلابية التي جرت في التاريخ الحديث وسنكتفي بهذه الشواهد للفت النظر الى مدى أهمية الحركات الطلابية وقدرتها النوعية على المساهمة في التغيير.

الرهان المتبقّي

في المجتمعات الحديثة المُنَظّمة تكثر التنظيمات الطوعية، والأحزاب، والنقابات، والجمعيات، والهيئات، ومنظمات المجتمع المدني المُستقلّة. في مثل هذه المجتمعات التي تخضع للتقسيم الاجتماعي الحديث، ترتبط جماهيرها عادة بنوع البرامج التي تقدمها هذه التنظيمات، فتغدو هذه الأخيرة قوة ضغط اجتماعي، تمارس عمليات المقاومة المستمرة ضد إكراهات السلطة وهيمنتها. تبدو ثنائية السلطة والمقاومة واضحة وجلية في مجتمع يتمتع بقوة التنظيمات الطوعية. على خلاف مجتمعاتنا، والعراق على نحو أخص، تغيب التنظيمات الطوعية، وتحضر السلطة وجماهيرها المطيعة والوجدانية والميّالة إلى تقديس قادتها والارتباط بها روحيًا. في مجتمع ينزع نحو التسلطية، تنعدم فيه البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنوجد فيه بقوة الولاءات المجانية. لا أقول بانعدام المقاومة كليًا، وإنما يتحول فعل المقاومة إلى عملية استبدال شكلية فحسب، ولا تطال البنية العميقة؛ فتاريخ العراق السياسي، هو تاريخ السلطة، رغم التغييرات التي جرت باسم "الثورة" غير أن تاريخ المحاكمات العسكرية، ونظرية القائد الضرورة، هي العنوان المركزي لعمليات التغيير التي حدثت.

إذن، ومحل الشاهد، لا يوجد في العراق غير الطلاب الذين يمكنهم رسم معالم التغيير المنشود، لأنهم، كما قلنا، الأكثر تنظيمًا مقارنة بالآخرين، والأقل تبعيةً إذا ما قورنوا بباقي الجماهير العقائدية. تكمن خطوة الطلاب في سرعتهم ومرونتهم للاستجابة في حمل مشعل التغيير من جهة، ومن جهة ثانية إنهم الأسرع في تنظيم أنفسهم. حتى الطلاب المرتبطين بمرجعيات دينية لا يمكن مقارنتهم بالآخرين، نظرًا لوعيهم المتقدم نوعيًا؛ إذ لا يمكن قياس نوعية الولاء بين الفئات الفقيرة والمعدومة وبين طلبة الجامعات لنخرج بنفس النتائج.

لم يبق خيط أمل نتمسك به بالنسبة للأجيال التي طحنتها الحروب، والتي استقرّت على ولاءات تضمن لها الاطمئنان والاستقرار في الحياة الآخرة، أما نصيب الدنيا فقابل للتنازل طالما نقاطها المرجعية لم تتعرض للتشكيك. لذلك، ونظرًا لهذه الأسباب والتحديات، يعتبر الطلاب هم المجتمع القادم وبقوة لقيادة التغيير، حتى ولو بعد حين، وسنقف خلفهم لنتعلم منهم، بعد أن نخرتنا ثقافة التخوين والتسقيط والمناكفات المرّة التي جعلتنا أضحوكة للعالمين.

Top