تقرير يرصد ساحة التحرير في مئة يوم : ما زالت قلب الاحتجاجات النابض

تقرير يرصد ساحة التحرير في مئة يوم : ما زالت قلب الاحتجاجات النابض

 متابعة الاحتجاج

رصد تقرير، أعدته محطة “فرانس 24” الفرنسية إلى أن ساحة التحرير ما تزال “القلب النابض” للاحتجاجات على الرغم من كل ما جرى. يأتي ذلك قبل أيام من موعد التظاهرة التي دعا إليها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، ضد الوجود العسكري الأميركي، والتي أيدها قادة الفصائل المسلحة، وسط مخاوف من حدوث احتكاكات أو أعمال عنف.

واختيار الصدر ساحات الاحتجاج في بغداد والمحافظات موقعاً للتظاهرة الجديدة، على الرغم من مطالبات صدرت عن ناشطين تشير إلى أهمية إبعاد التظاهرة القادمة عن ساحة الاعتصام.

وقال الصدر رداً على ذلك في تدوينة له يوم أمس الاول الخميس “التظاهرتين: نوران من سراج واحد.. يوقدان من شجرة الإصلاح المباركة.. لتفيء أغصان الزيتون العراقية على الشعب وأطيافه لتكون ككوكب دري لا شرقي ولا غربي، يزيل عنا ظلم الاحتلال وأيدي الفساد وعتاة الارهاب ودعاة العنف والظلام فننعم بالحرية والسلام والصداقة مع الجيران والعزة والشموخ أمام الشعوب الكرام”.

وأضاف، “أيها الشعب العراقي الأصيل ويا أيها الثوار الشجعان ضد الفساد استمروا ونحن معكم فلا وطن مع الاحتلال ولا سيادة مع الفساد ولا أمان مع الإرهاب ولا حرية مع التشدد”.

وجاء في التقرير : 

على الرغم من مرور ما يقارب المئة يوم على بدء الاحتجاجات الشعبية في العراق، لا تزال ساحة التحرير الواقعة في وسط العاصمة بغداد بالقرب من نهر الدجلة، القلب النابض لهذه المظاهرات التي انطلقت في تشرين الأول/ 2019. فرانس24 تجولت في هذه الساحة التي تمتزج فيها السياسة والإبداع والتجارة فضلا عن أصوات الموسيقى المرتفعة ومنبهات مركبات “توك توك”.

جدار أمني كبير يقابلك عند نهاية شارع السعدون المؤدي إلى ساحة التحرير، وسط العاصمة بغداد. قوات الأمن تقوم بتفتيش الحقائب وجيوب المتظاهرين لمنع تسلل أي شخص مسلح إلى داخل الساحة التي تعرف ازدحاماً كبيراً من شروق الشمس إلى غروبها. ومنذ أكثر من شهرين، تحولت هذه الساحة، التي كانت سوقاً كبيراً يعج بالبضائع الصينية والإيرانية، إلى تقاطع يلتقي فيه المعتصمون والمتظاهرون الذين جاءوا من بغداد ومن محافظات عراقية أخرى.

المنظر الأول يوحي بأنك في بلدة صغيرة داخل مدينة أخرى كبيرة بسبب العدد المذهل من الخيم التي تم نصبها من قبل المتظاهرين والأعلام العراقية التي ترفرف في السماء، تعانق صورا لشبان من مختلف الأعمار راحوا ضحية عنف قوات الأمن ومسلحين مجهولين خلال المظاهرات الحاشدة التي عرفها العراق في شهري تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ يناير الماضيين.

وعندما تقوم بتجاوز الحاجز الأمني الرئيس ببضعة أمتار يقابلك في الأفق مبنى كبير وعالٍ غير مكتمل البنيان يدعى بمبنى “المطعم التركي”، كونه كان يحتضن في طابقه الأخير مطعماً تركياً شهيراً، إضافة إلى محلات تجارية عديدة قبل أن يدمره الجيش الأمريكي بغارة جوية خلال حرب الخليج في 2003.

تحولت هذه البناية المهجورة إلى نقطة التقاء الفنانين والمتظاهرين والشبان المعتصمين. جدرانها المزينة بلوحات فنية ورسومات ذات مغزى سياسي واجتماعي تروي قصص الثورة العراقية وتلخص بعض شعارات المحتجين وطموحاتهم، منها شعار: “العراق يجمعنا والأحزاب السياسية تفرقنا”…

فيما تظهر رسوم أخرى وجوه نسائية مثل فطومة عانين من عنف قوات الأمن والمليشيات، إذ قتل البعض منهن خلال المظاهرات التي اندلعت في العديد من المحافظات العراقية، كما يشرح لفرانس24 غزوان آل عزارة، شاب عراقي من مدينة الناصرية التي تقع على بعد حوالي 350 كيلومتر جنوب شرق بغداد.

غزوان آل عزارة هو الذي يشرف بشكل غير رسمي على هذا المبنى المهجور، حيث قام رفقة أصدقائه ورفقائه في “النضال”، كما يصفهم، بتنظيف بعض أجزاء المبنى وتزويد طابقه الأرضي بالكهرباء، ليحوله إلى ما سماه بـ”خندق الثوار” ينظمون بداخله لقاءات واجتماعات “تقنية” وحلقات سياسية بهدف تنظيم الاحتجاجات وإعطاء زخم جديد للثورة العراقية، حسب تعبيره.

مقبرة رمزية تخليدا للذين قتلوا خلال المظاهرات الشعبية

كما قام هذا الشاب، الذي يرتدي قبعة سوداء تخفي الجزء الأعلى من الوجه، بتشييد مقبرة رمزية ونصب تذكاري وتمثال للحرية في الحديقة المتاخمة للمبنى. الهدف من هذه الخطوة هو “تخليد دم “شهداء” الثورة العراقية الذي وصل عددهم إلى حوالي 600 قتيل، حسب ما قاله هذا الشاب العراقي لفرانس24.

وواصل قائلاً: “هذه المقبرة الرمزية حققت هدفين أساسيين، أولهما القضاء على الطائفية كون أن الأسماء المكتوبة على القبور تمثل سنة وشيعة على حد سواء. ثانياً دم الشهداء انتصر على صوت الظالم والفاسد الذي يعد طاغوت العصر (يقصد الأحزاب وبعض المسؤولين الكبار الذين يسكنون في المنطقة الخضراء). نحن خرجنا لتغيير النظام بأكمله ومحاربة الفساد والمفسدين. لقد حققنا بعض الأهداف ونتمنى أن نحقق في القريب العاجل جميع المطالب الذي خرجنا من أجلها جميعاً. كلنا مجتمعون هنا في “الخندق” كشبان من الأنبار والناصرية وبغداد وتكريت والبصرة … لنطلب شيئاً واحداً ولنقول نريد وطناً”. ومن “خندق الأبطال” تحت مبنى المطعم التركي، اتجهنا إلى خيمة “العراق الجديد” لنلتقي بعباس عودة حسن وهو معتصم في ساحة التحرير منذ 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لغاية يومنا هذا. المسافة ليست بعيدة ومكبرات الصوت تبث أغاني دينية وأخرى وطنية كلها تشيد بالثورة العراقية، وتدعو الشعب العراقي إلى الثبات ومواكبة التحديات السياسية التي تلوح في الأفق.

عباس عودة حسن (40 عاماً) يعمل كموظف في وزارة العدل كان رفقة أصدقائه وابنته الصغيرة داخل الخيمة. وقال لفرانس24 “أنا معتصم هنا لكثرة الفساد في الدولة العراقية إلى درجة أنه تحول إلى ظاهرة. هذا شيء سيئ بالنسبة لنا. الناس تتقدم إلى الأمام ونحن نتقدم فقط في الفساد. لم نخرج إلى الشارع ضد الدولة، لأننا نحن جزء من هذه الدولة بل ضد الحكومات الفاسدة التي توالت منذ العام 2003 لغاية 2019 دون استثناء”. عباس عودة حسن: “الإساءات ومشاكل العراق مصدرها كلها دول الجوار”

يقطن عباس عودة حسن في حي شعبي ببغداد. وهو أب لثمانية أطفال. يزاول عمله خلال ساعات الدوام ويعتصم في الظهيرة والليل بساحة التحرير وخلال أيام الراحة. لكنه يعتقد بأنه سيفصل من العمل في حال استمر بنفس الوتيرة، ورغم ذلك فهو قرر مواصلة الاعتصام إلى غاية تحقيق أهداف الثورة، حسب تعبيره.

وقال لفرانس24 إن “العراق وصل إلى هذه الوضع المزري رغم ما يملكه من ثروات باطنية ومثقفين بسبب كثرة الولاءات الخارجية. هناك ناس موالين لأميركا وآخرين وأخرين للسعودية وحتى لتركيا. لكن هذا خطأ لأن جهود أبناء العراق يستفيد منها الخارج. حتى ثمرات البلد لا تبقى داخل البلد، والدليل على ذلك أن جميع الحكومات التي تعاقبت لم تحافظ على قيمة الدينار العراقي بقدر ما حافظت على قيمة الدولار لكي يهربون أموالاً طائلة إلى الخارج بهذه العملة”.

وقال لفرانس24 إن “العراقيين لم ينتفضوا بدوافع قومية أو طائفية، والدليل أن الذين خرجوا إلى الشارع للتظاهر هم في غالبيتهم من مناطق الوسط والجنوب التي يقطنها الشيعة”، موضحاً أن أسباب الانتفاضة عديدة من بينها “الفقر والفساد المستشري في المؤسسات العراقية وعدم الإحساس بالوطنية”.

ولكثرة التزامه بالثورة، لا يقضي عباس عودة حسن أوقاتاً كثيرة مع زوجته وأولاده الثمانية. فهو يغادر المنزل في الصباح الباكر ولا يعود إليه إلا في ساعات متأخرة من الليل، ما جعله لا يتابع دراسة أولاده. ويرى أن مستقبل العراق منوط بأشياء عديدة، أبرزها ترك الولاءات للخارج التي تعطي الخطوة الأولى لبناء عراق جديد ومستقل، معتبرا أن “جيلنا هو جيل الحروب والمشاكل التي بدأت مع دول الجوار منذ 1980.

ويعتقد عباس عودة حسن أن الثورة العراقية ستأتي بنتائجها رغم الصعوبات التي تواجهها، لكن بدأت هذه النتائج تظهر، كما يرى، ومن بينها استقالة حكومة عادل عبد المهدي وتغيير القانون الانتخابي بشكل جذري، فيما بقي فقط اختيار “شخصية أقل شرا” لتعيينها رئيساً للحكومة، لأن هذا “المنصب حساس ومهم سياسياً”، حسب هذا المعتصم.

زينب عبد داوود القيسي “الوطن أهم من المنزل بالنسبة لي”

الليل بدأ يسدل ستاره على ساحة التحرير التي أصبحت مكتظة بالشبان والطلبة. أصوات الموسيقى تتعالى من كل الأماكن والطوابير تتشكل أمام العديد من الخيم التي توزع مجاناً فطائر عراقية وصحون من الأرز وكؤوس من الشاي العراقي. وليس بعيداً عن مدخل الساحة حلاق يقدم خدماته مجانا للمعتصمين بينما تنظم هنا وهناك محاضرات سياسية واجتماعية لفهم مغزى الثورة العراقية وكيف مواكبتها لغاية تحقيق المطالب.

أما زينب عبد داوود القيسي، فهي لا تبرح المكان، وتعمل كمتطوعة في الإسعافات الأولية منذ بدء الانتفاضة العراقية كما تقول في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 الماضي. وقالت لفرانس24 تعرضنا كثيراً خلال الإسعافات إلى هجمات عديدة من قبل قوات الأمن وللرصاص الحي والغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية. تعرضت على مستوى جسر الأحرار إلى إطلاق نار وأصبت في برصاصتين. أجريت بسببها عملية جراحية و لا تزالان في فخدي”.

ولعبت زينب وفريق الإسعاف الذي يعمل معها دوراً هاماً في الحفاظ على حياة المتظاهرين قبل ظهور المفارز الطبية. “كنا نعالج الذين تعرضوا إلى الغاز المسيل بالدموع بمشروب “الببسي” والخميرة الممزوجين بالماء. لكن بعد أن وصلتنا مساعدات مالية فتحنا عيادة طبية متنقلة وزودناها بأجهزة طبية مثل جهاز التنفس وأدوية أخرى وباشرنا في تقديم الإسعافات الطبية الأولية”.

ورغم الأخطار الأمنية التي تواجهها هذه الشابة التي تعمل في وزارة التكنولوجيا العراقية، إلا أنها مصرة في مواصلة تقديم الإسعافات للمصابين رغم رفض عائلتها التي تخشى على حياتها. ” الوطن أهم من المنزل بالنسبة لي. أريد قبل كل شيء استقرار الوطن لأن به سيستقر المنزل. أريد وطن. والدتي عادتني خاصة بعد أن أصبت بالرصاص ورفضت الحديث معي، لكن لم أغير موقفي ولا زلت صامدة ومتواجدة في مكان الاعتصام لكي لا تذهب أرواح الشهداء هدراً ودم المصابين والمعاقين الذين أصبحوا بالآلاف بسبب هذه الثورة”.

وفي خيمة طلابية خصصت جداراً لكتابة الأمنيات بمناسبة السنة الجديدة، التقينا بمريم نائل (18 عاماً) طالبة في السادس إعدادي ببغداد ومعتصمة منذ الساعات الأولى من بداية الانتفاضة العراقية. بالنسبة لهذه الشابة التي غطت شعرها بالعلم العراقي، فالتواجد في ساحة الاعتصام بالتحرير هو أبسط شيء يمكن أن يقدمه كل مواطن عراقي من أجل مستقبل أحسن.

وقالت لفرانس24 هل يعقل لشخص أن يطلب وطنا في 2020. هذا لم يحدث في أية دولة أخرى في العالم. كيف يمكن أن أضرب بالرصاص وبالغاز المسيل للدموع بمجرد أنني رفعت العلم العراقي وأصرخ لبيك يا عراق. هل هذه جريمة؟ لا هذا مطلب شرعي وإنساني. في دول أخرى إذا تعدى جندي على مواطن، فسيسجن ويعاقب من قبل القضاء بينما نحن هنا في العراق نموت ولا أحد يسمع بنا”. وواصلت بغضب جديد وصوت مرتفع: “الحكومة ترانا كبراميل نفط وليس كبشر. بمعنى أنها ترى العراق كمكان لأخذ النفط فقط ولا تولي أهمية للحيوان ولا للإنسان”.

وأشادت مريم بالدور “العظيم” الذي قام به الطلبة الذين هجروا مدارسهم وجامعاتهم منذ ثلاثة أشهر مساندة للثورة. وتتمنى النصر لكل العراقيين من الطالب البسيط إلى الموظف الإداري الذي ربما لم يشارك في الثورة.

“مختبر أفكار”

ساحة التحرير في بغداد لا تنام. وهي بمثابة مختبر لأفكار جديدة وفرصة سانحة للأحزاب، خاصة الدينية منها لإعادة تلميع صورتها التي تدهورت كثيراً لدى الشباب الذي يراها كجزء من الأزمة التي تعصف بالعراق.

وبعد مرور ثلاثة أشهر على الثورة، يرى المعتصمون أن ثورتهم لم تحقق الكثير لغاية الآن. أكثر من ذلك فهم يتقاسمون قناعة بأن حكومة الأحزاب الفاسدة كما يسمونها تماطل في الاستجابة لمطالبهم “المشروعة “.

وإلى ذلك، قام المعتصمون بتوزيع منشورات موقعة باسم “ثوار ساحة الاعتصام ” دعوا فيها إلى تنفيذ مطالب المحتجين (محاكمة قتلة المتظاهرين وتشكيل حكومة إنقاذ وطني…) وإلا سيواصلون التصعيد “السلمي” المتمثل في “غلق الطرق في بغداد والوزارات والدوائر الحكومية” فيما طالبوا وزارتي الدفاع والداخلية بالوقوف بجانبهم “لاسترجاع عراقنا العزيز”

Top