العراق بلا دولة: انتهاكٌ للسيادة، مفتوحٌ للتدخل والعدوان..!

متظاهر 2020/01/04 10:10:06 م

العراق بلا دولة:  انتهاكٌ للسيادة، مفتوحٌ للتدخل والعدوان..!

 بقلم متظاهر

مثل الولادة القيصرية، في ظروفٍ لا تتوفر فيها البيئة الصحية المناسبة ولا شروط السلامة، ولد "العراق الجديد" من رحم النظام الاستبدادي الذي خلف دولةً ضاعت معالمها، بعد أن اختزل الدكتاتور في شخصه، النظام والسلطة والحزب والدولة، لتنهار معاً بمجرد سقوطه.

ولأن التغييرتحقق بفعل حربٍ فُرِضت على العراقيين دون إرادتهم، تشكل البديل هو الآخر، هجيناً، على أنقاض الدولة المنهارة، وبفضلاتها. وطوال ستة عشر عاماً من حكم بُني على قاعدة مشوهة، غُيّبت الدولة، لتصبح مجرد وعاءٍ سياسيٍ، لنظامٍ طائفيٍ، تحاصصيٍ، ينخر فيها الفساد. وبدلاً من إعادة بناء دولة مؤسسات ديمقراطية، أساسها المواطنة، أعاقت الطبقة السياسية التي مكّنها الاحتلال الأميركي من بسط سيطرتها على شبه الدولة الخربة، استكمال بنيان وهيكلية الدولة، لتظل هجينة من اجل تكريس سلطتها المشوهة. ولم تكتف بالإعاقة التشريعية والسياسية، بل عمدت لبناء منظومة موازية تحول دون بسط سيادة "شُبه الدولة"، رغم هشاشتها، وافتقارها للمؤسسات والقوانين الضامنة. وخلال سنوات الاحتلال، ظل العراق رهينة طيّعة، بلا قرار مستقل ولا إرادة لتحديد وجهة التطور. وبطبيعة الحال، فلم يكن وارداً الحديث عن السيادة المنتَهكة، شكلاً ومضموناً تحت سلطة الاحتلال.

كان من نافل القول الحديث عن الإرادة الوطنية، والإرهاب التكفيري يحصد أرواح الناس، والقتل على الهوية يجعل للهويات الفرعية "كانتونات" تحتمي بحواضنها الطائفية والعرقية والدينية والمذهبية. وتتبدد دعوات "المصالحة المجتمعية" لتصبح ولائم لتبادل القبل و"معجون المحبة"، ونهب المال العام تحت غطاء التعويضات والهبات للتنظيمات المسلحة، مقابل انضمامها المُخادِع للعملية السياسية.!

ولم يعد الحديث عن بناء الدولة أو استكمالها، همّاً للطبقة السياسية التي توسعت بانضمام من تخلف، واستمالته بالامتيازات وصفقات الفساد والمواقع الحكومية، ومراكز النفوذ والجاه. بل تراجع أي همٍ وطني، بعد أن أُبتُلينا باحتلال داعش لثلث مساحة العراق، ليُصبح التدخل مطلباً حكومياً قريناً للسيادة.!

لم يكن العراقيون المُنتفضون في أساس كل هذا الذي مر على البلاد من نكبات. لأن قرار الهزيمة ومواجهة تبعاته، باستقدام القوات الأجنبية، والارتهان لمشيئتها، كان قرار "الدولة" وسلطتها المطلقة، وبمباركة الأحزاب والكتل التي جَرَّدت العراق من قدرة وتمكين مواجهة التحديات التي تستهدف سيادته، وتعرض أراضيه للاستباحة والتدخل، لتصبح ملعباً لاشتباكات الغير، وساحة لتصفية الحسابات بالنيابة. لم يعُد للوطنية موقعاً في خضم الصراعات الطائفية والمذهبية، وضَمُرت الإرادة الحرة في إدارة شؤون البلاد واختيار طريقِ التطور الوطني، والتسيّد على مقدرات العراق وثرواته ووجهة تطوره المستقل. 

لقد باتت مفردة السيادة ذات مضامين جديدة، طائفية ومذهبية ودينية وقومية، يتنازع البرلمانيون باسمها ولاءاتهم على امتداداتها في كل الاتجاهات وراء الحدود. ومن بين المقاربات المثيرة للشجن والشعور بالانكسار، اعتراف القيادات العليا الممُمَثّلة في قمة السلطة "بغرفتيها التشريعية والتنفيذية" بأن امتدادتها خارج الدولة وحدودها، حقيقة لا عيب فيها، لأن لكل طرفٍ امتدادٌ وحظوة، "تحميه من الوطن" وتمده باسباب القوة في مواجهة الآخر، وتعزز من مواقعه في السلطة و"حصته" من الغنيمة.

ومن هنا يبدأ السؤال عن أي سيادة يجري الحديث، حين يصبح الامتداد الولائي خارج حدود السيادة في كل الاتجاهات، معنىً افتراضياً جديداً للانتماء، حيث لا وجود للدولة الوطنية المستقلة؟.

يحاول البعض وهو يبرر التأسيس لمعنى جديد لـ"الوطنية" وقيمها، بالتحول الى العولمة، حيث تختفي الحدود بين الدول، وتُعاد صياغة الثقافات، أو تتلاقح، او تتأصل بعضها على حساب اختفاء ثقافاتٍ وتقاليد. قد يكون ذلك من بين أسباب تماهي فكرة الوطنية، لِكَمِ التهديم والتفكيك الداخلي لها، بفعل صعود الأنظمة الدكتاتورية، وتمزيقها لوحدة النسيج الاجتماعي، وتجريد المواطن من كل حقوق المواطنة، وإقصائه من مواقع القرار، وحرمانه من الحدود الدنيا من متطلبات العيش التي تليق بالبشر. ودفعه للبحث عن بدائل "كريمة" في المغتربات الحضارية. 

لكن العولمة من حيث الجوهر، تغني الأفراد والمجتمعات بالقيم الإنسانية، وترتقي بثقافتها وقيمها بالتواصل والتفاعل والخيارات. وبهذا المعنى، تمُد الدول والأمم باسباب التطور والتقدم والنمو بما يجعلها ركناً من اركان الحضارة، يوفر "الوطن" فيها كل ما يجعل منه واحة للعيش والغنى الروحي والمادي.

ولا يمكن لهذا أن يتحقق دون وجود الشروط الضرورية للدولة نفسها. فكيف اذا كانت من حيث "التكوين الجديد" فضلات دولة استبدادية متفسخة، لم تستطع ان تكون سوى شبه دولة فاسدة خربة، تتصارع في خرابتها هويات فرعية، وتتجاذبها ولاءات تتلوّى على أي حدٍ من توصيف الانتماء الوطني..!

رد رئيس سابق لمجلس النواب العراقي على سؤال محرج حول سبب تخليه عن الاستقواء بالولايات الأميركية، بما يلي: "سألت مبعوث الرئيس الأميركي ماكورك هل تستطيع ان تتعهد لي بما أطلبه من دولتك، يحقق لي مطالبي وامتيازاتي. أجابني لابد لي أن اسمع ثم أنقل.! قلت له "عمي أكو مَن أطلب منه وينطيني دون ان يطلب مني الانتظار ليسأل دولته". 

والبلاغة السياسية لهذا القيادي المقرر لمكون أساسي، لا تتمثل في هذا، بل في تأكيده على أن كل شيء يتوقف على الطلب والاستعداد للاستجابة ..!

بعد هذا كيف يمكن لمثل هؤلاء، لطبقة سياسية لم تفرقها الهويات الفرعية فحسب، بل صار الوطن بالنسبة لها "غنيمة"، لن تستبدلها بمفهوم وطنية عفا عليه الزمن ..! 

وتحت حكم هذه الطبقة يصير وطن بلا دولة، دولة بلا سيادة ولا حضور..

Top