فرادة انتفاضة أكتوبر ودلالاتها: سلميتها، ووحدة شعاراتها ومواقفها..

متظاهر 2019/12/15 09:49:44 م

فرادة انتفاضة أكتوبر ودلالاتها: سلميتها، ووحدة شعاراتها ومواقفها..

 بقلم متظاهر

أذهلت انتفاضة الاول من اكتوبر الشبابية الرائدة، المراقبين الكُسالى الذين اعتادوا على اعتماد معايير وأسس تقليدية "ساكنة" في تحليل المظاهر والتطورات الانعطافية في المجتمع.

ولهذا ما زال البعض منهم يَحار وهو يبحث عن المُحَرِّك والمُنَظِّم الذي يقف خلف النهوض الجماهيري العاصف بكل زخمه وعنفوانه وعمق شعاره المُوَحِد" نريد وطن" بكل دلالاته وما يجسده من أهدافٍ وما يُعبر عنه من "مصالح وطنية عليا".

وهي ظاهرة مُحَيرة حقاً إذا ما قورنت بالانتفاضات والهبّات الجماهيرية التي قادتها احزابُ او شاركت فيها قوى وجبهات وطنية في مختلف المراحل التاريخية التي تعاقبت على الحكم منذ تأسيس الدولة العراقية في اوائل عشرينيات القرن الماضي. فقد كانت في طليعة تلك الهبّات والانتفاضات والوثبات أحزاب جماهيرية منظّمة، شاركت فيها قوى وشرائح اجتماعية واسعة التمثيل. وهي التي صاغت شعاراتها واهدافها وحددت سقف مطاليبها الاجتماعية والسياسية.

وما لم تدركه الاوساط التي فاجأتها الانتفاضة، أن المحرك لطابعها العفوي يكمن في عوامل أخرى غير تقليدية. نمت وتعمقت في مجرى تطور الحركات الاحتجاجية التي شهدتها بغداد ومحافظات عديدة على امتداد سنوات ولاية نوري المالكي. وهي المرحلة التي انتشرت فيها مظاهر الفساد المالي والاداري بتجلياتها ونماذجها في الدولة، لتتحول الى ثقافة اجتماعية. وازدادت البطالة واتسعت ظاهرة الفقر والمعاناة الاجتماعية لأوساط اوسع. وتراجعت الخدمات بحدودها الدنيا لتنحدر الى أدنى مستوياتها. وقادت تلك الولاية السوداوية لمختار العصر وبطانته البلاد الى سقوط ثلث مساحته لتتشكل منها خلافة البغدادي. ومكنته بيسر لم يكن يتوقعه من الاستيلاء على اكثر من مليار دولار نقداً وعلى كميات من السلاح والعتاد كانت كافية لتوسيع مساحة خلافته الوضيعة وتعزيز قدراتها على تنفيذ عملياتها الارهابية ضد شعبنا. ومن الاسباب التي أجهضت ذلك الحراك إضافة الى القمع المفرط الذي مارسته القوى الامنية، عدم نضوج الوعي الجمعي ليشمل اوساطاً اوسع واكثر فعالية وادراكاً بعواقب الازمة المتفاقمة التي تضيّق الخناق على حياة الناس وامنهم والمستقبل المظلم الذي يُقادون اليه نتيجة السياسة الهوجاء المناقضة لكل مباني الدستور رغم اختلاله.

وقد ضيّعت حكومة العبادي فرصة التنفيس عن الازمة والقيام بإصلاحات تقويمية بعد ان فوضته الحركة الاحتجاجية وحتى البرلمان بصلاحية اتخاذ القرارات واقتراح التشريعات اللازمة للتوجهات المطلوبة. 

وجاءت الشعرة التي قصمت ظهر البعير في الإخفاق المُزري لحكومة عادل عبد المهدي. ومهما قيل عن الفترة الزمنية القصيرة وضعف الامكانيات، فإن الفشل في اتخاذ اي خطوة باتجاه الاصلاح، وتدني كفاءات اعضاء الحكومة والشبهات في سيرة بعضهم وتجلي المحاصصة التي دخلت فيها بقوة شكلت اعمق صدمة نجمت عنها حالة احباطٍ ويأسٍ ترافقت مع اسوأ مراحل انتشار النهب والفساد والأوبئة الصحية والاجتماعية وانحطاط التعليم والجريمة المنظمة وانفلات الميليشيات التي اصبحت تمتلك لاول مرة مشروعية التمثيل في الدولة ومؤسساتها والبرلمان بالاضافة الى أذرعها المسلحة وتعاظم قدراتها التسليحية. وصار واضحاً ان قيامة الطبقة السياسية الفاسدة الجائرة آتية لا ريب فيها. وكان هذا كله كافياً لتفجير غضب السواد الأعظم من الجماهير التي هدّتها الفاقة والفقر والاملاق غير المسبوق. وليتحول الغضب الى المحرك الذاتي للانتفاضة. في غياب قوى منظمة تلتقط لحظة التحول وتتصدرها. 

وهذا الطابع العفوي الجماهيري للانتفاضة عكس وعياً متقدماً في قدرته على صياغة شعاره المركزي "نريد وطن" وتضمينه اهدافها في الأسس الكفيلة بالاصلاح الذي لا يتحقق دون تغيير منظومة الفساد ونظام المحاصصة الطائفية، والمستند على هيمنة الطبقة السياسية التي اغتصبت ولا تزال تريد مواصلة مصادرة ارادة العراقيين في اختيار حكومتهم الانتقالية. ولكي يتحقق لها ذلك، لم تتوان عن استخدام الرصاص الحي والمجازر المروّعة وأسلحة الفتك الاخرى ضد المتظاهرين والمعتصمين. ولم تكتف بإرهابها في حصد الارواح في ساحات التظاهر والاعتصام، فصارت تطاردهم اثناء ذهابهم وإيابهم الى الساحات لتمارس ابشع وسائل العنف بالاغتيال والاختطاف والتغييب في المعتقلات. 

لكن الأخطر من ذلك كله، يتمثل في مناوراتها بالاندساس في ساحات التظاهر. ومحاولة خروج البعض على تمسكهم بتحديد الاهداف، ووضع المعايير سواء لتوصيف المرشح لرئيس الوزراء او الوزراء، بالاضافة الى مضامين القوانين المطلوبة للانتخابات ومفوضيتها وما تتطلبه المرحلة الانتقالية من تمهيد لاجراء الانتخابات المبكرة.

وقد كان ملفتاً، أن يرفع البعض لافتات تحمل اسماء مقترحة لمرشحين لموقع رئيس الوزراء البديل. وسيواجه مثل هذا الخيار الطعن في شرعيته اذا ما بادرت اي تنسيقية أخرى مستقلة عن اي نفوذ حزبي باقتراح مرشحين آخرين مما يسهم في التشكيك بوحدة ساحات الاعتصام ويساعد في دق اسفين بين تنسيقياتها.

إن سلمية الانتفاضة الباسلة ينبغي ان تحافظ على وحدتها وطابعها غير الحزبي، رغم احترام المشاركة الحزبية فيها، شرط ان تتخلى عن نزوعها نحو الهيمنة وتوجيهها لخدمة أهدافٍ ضيقةٍ قد تخلق التباسات وتحرض على تدخلاتٍ خارج سياقات الانتفاضة السلمية العفوية.

إن رئيس الجمهورية الذي يؤكد لا جديته في اخذ رغبة المنتفضين ومعاييرهم لتوصيف من يصلح لاشغال موقع رئيس وزراء بديلا عليه ان يكتفي بالمعايير المطلوبة الكافية وحدها دون ان يحملهم مسؤولية تقديم مرشحين، باعتبارهم يمثلون جماهير الساحات والمتضامنين معهم. 

المعايير وليس المرشحين هي ما يتطلبه من الساحات لافشال كل مناورات السلطة الغاشمة.

Top