قراءة في ثورة تشرين الإصلاحية.

المقالات 2019/12/04 04:15:37 م

قراءة في ثورة تشرين الإصلاحية.

يتحدث أمين  معلوف في كتابهِ الهويات القاتلة، عن تجربتهِ الشخصية باعتباره لبنانياً،  لكنه فرنسياً في الوقت نفسه، أن تكون لغته الأم هي العربية بينما يكتب  أفكاره وأدبه بالفرنسية، بين الديكورالأجتماعي الشرقي الذي كان اطاراً  لحيواته الثقافية واختلاطه بديكورغربي فيه كثير من الإختلاف. لكنه يتصدى في  كتابه لسؤال مهم إضافي يتعلق بالشعورالعميق، الشيء الذي في قرارة النفس  البشرية،

حيث تبدو الإجابة السريعة عن الطمأنينة للهوية المختلطة غير واضحة، تلفيقية ربما، أو أنها لاتعبرعن الحقيقة فعلاً.
وفي الواقع إن طرح السؤال الهوياتي يحتاج الى جدية مضاعفة ووعي بالذات أولاً، كما يقول أرسطو: اعرف نفسك أولاً. لأن الإجابة خاصةً للعراقي لن تكون واضحةً بدون الكثيرمن الجدية والإخلاص للمعرفة. الفرنسي عندما تسأله عن هويته، يقول إنه فرنسي، القضية محسومة له فيما يتعلق بسلم الأولويات على الأقل. أما بالنسية للعراقي فمازال السؤال الصعب الخاص بتنظيم الأولويات حاضراً ونشطاً ومضطربا في الوقت نفسه. فهو شيعي وسني، كردي وعربي، صابئي ومسيحي وأيزيدي، العراقي له عشيرة وعائلة، له مساحة جغرافية تربى فيها هو وأجداده، مرتبط بها عاطفيا ويدافع عنها بشكل مبالغ به، منطقة يتجذرالإنتماء لها ثقافياً كلما شعر بالخطر أو محاولة التطاول، ويفاضل دائماً داخل لاوعيه بينها وبين الطبيعة الثقافية لمنطقة أخرى. العراقي له لغة ولهجة وعادات، وتتسع القائمة الى انتماءات أخرى أقل تأثيراً ربما، لكنها موجودة وتتفاعل داخل منطقة اللاوعي، عناصر لن تحتاج سوى لتحريض كي تظهر بصورة الغاضب المستعد للعراك، المدافع عن هوية رئيسة، كان من المفروض أن تكون في مكانٍ آخر من القائمة.
وبالطبع عندما يتعلق الأمر بسؤال الهوية لايجب أن نتجاوز تأثير كل هذه العناصر، أو وجودها الحقيقي، الشيعية على الشيعي، والسنية على السني، والأمر يشمل بالطبع الأعراق والأديان والقوميات وحتى التقليد للمرجعيات الدينية. لكن السؤال الأهم كما أرى لا يتعلق بضرورة تفتيت هوية لفسح المجال لهوية أخرى بالصعود على سلم الأوليات، بل بجعل الهويات الفرعية الصغيرة، عناصر مكملة وساندة للهوية الشاملة والتي يكون موضعها رأس القائمة، الهوية التي أُقصيت عن الوصول لموضعها الطبيعي في كل مراحل بناء الدولة العراقية، اذ كان من المفروض لفكرة بناء الدولة أن تشترط وضع الهوية الوطنية على رأس القائمة.
وفي المجتمعات المنسجمة في تركيبتها العرقية والدينية واللغوية تكون الهوية واضحة، والسؤال بخصوصها سهلاً. حتى الانحراف أو التشظي الذي يحدث لأسباب كثيرة في كتلتها، يمكن تقويمه، واعادة كل شيء الى وضعه ذو الطبيعة المستقرة، حيث لا تسمح المجتمعات عادة ًبالتغييرات الكبيرة في نسيجها الهوياتي، بل تحاول تحديد وجودها ضمن كادر يضمن لها التميز عن الآخر والدفاع عن حدوده. لكن الأمر يبدو معقداً في حالة الهويات المركّبة. ومايزيد الأمر خطورة هو تدخل رجال السياسة، أو أصحاب المشاريع الانفصالية او الأيدلوجية، لإحداث االاهتزازات الكبيرة، وإعادة ترتيب الاولويات على الأقل بتوظيف عنصر من العناصر لرفعة الى مستوى رأس القائمة. يرتبط هذا الفعل إستجابة لمصالح مادية أو ايدلوجية أو ربما من أجل تحقيق مكاسب محتلفة، ثقافية أو حتى تنفيذ أجندات خارجية، وأفكار حقيقة أو وهمية، فتتشكل طبقا لهذا التحريض، الهوّات الواسعة بين السكان الذين يعيشون في منطقة جغرافية واحدة، والمرتبطين بعقد مع كيان سياسي معروف لهم سابقاً، والذين يقفون أمم صورة وطنية لها حدود، رغم أنها صورة غيرواضحة في بعض الأحيان، الالوان فيها مشوشة، والترتيب فيها ليس ثابتاً.
ومارافق مثلاً بناء الدولة العراقية، هو انحراف في ترتيب الأولويات، الشيء الذي جعل الكيان الذي يمكن أن تنطوي تحت رايته المكونات مضطرباً وهشاً، القومية والدين والطائفة، كانت تتناوب على رأس القائمة، بينما الوطن لم يصل في ايّ من المراحل الى رأس القائمة، وهذا بالطبع قاد الى عدم الثقة بين المكونات المتنوعة، وأسسَ للشعور بالمظلومية والريبة والخوف من التهميش بسبب المنافسة بين العناصرالهوياتية، مما أنتج في بعض الأحيان عاطفة هي أقرب الى القطيعة والاختلاف منها الى فكرة التقارب أو التكامل في جعل العناصر كلها في حاضن واحد، هو الوطن، مع الاحتفاظ بباقي العناصر لتكون إضافات لاغنى عنها للصورة العامة التي تظهر فيها الهوية للآخر.
والسياسيات المنحرفة لطبيعة النظام الشمولي وسّعتْ الهوة، توّجِها، بل وأسس لها الاحتلال الامريكي، فصارت الهويات الفرعية، الطائقية والقومية والعرقية، والايدلوجية أساساً لبناء الدولة. تراجعت الهوية الوطنية الى ذيل القائمة، ولم يعد أحدٌ يعتني بصورة المواطن كعلاقة جامعة، بل تجذرت الهويات الأخرى بأعتبارها ملاذاً آمنا من الخطر، ثم وظفت هذه الملاذات الآمنة سياسيا فيما بعد، من أجل مصالح مادية أو علاقات مرتبطة باطراف خارجية، لتكون ساتر الصد الذي يجب أن تطلق من خلفه النيران، أو الموضع الذي يجب الدفاع عن حدوده، فكانت أحداث الحرب الطائفية تتويجاً لهذا التوظيف السياسي، وخلق وهم الهوية الطائفية باعتبارها جزهراً مقابل تفتيت الهوية الوطنية ، باعتبارها عنصراً عابراً لم يعد له وجود أصلاً، واستمرت فكرة إبعاد الهوية الوطنية على مر السنوات، خارج حتى حلبة المنافسة، باعتبارها خطراً وليس عنصر جماية، هذا ماحاولت الطبقة السياسية المنتفعة تأكيده لنثبيت وجودها، الطبقة الخالقة للأوهام ، حيث تحصنتْ بفكرة رفع الهويات الأخرى الفرعية الى رأس القائمة.
لكن الذي حدث في بداية تشرين، كان انقلاباً تصحيحاً، محواً لمبدأ المنافسة، بل هو أطروحة وضعتْ الهوية الوطنية في رأس القائمة لأول مرة، باعتبارها الصورة التي تحفظ للجميع وجودهم المتميز القائم على أساس المصلحة العامة. ليس هذا وحسب، بل حرضت حركة الاحتجاج السؤال النقدي المتعلق بتشريح العناصر الأخرى، رفع التقديس عن الصور التي كُبّرت فظهرت بغير بأضعاف حجمها، ثم إعادة تقيميها كعناصر يجب أن تكون مكملة وليس في موضع المنافسة مع الهوية الوطنية.

Top