الفن فـي خدمة انتفاضة شباب تشرين

الفن فـي خدمة انتفاضة شباب تشرين

متابعة / الاحتجاج

في ساحة التحرير، ومنذ تشرين الاول الماضي، قامت حملاتٌ شبابيةٌ بتنظيف الشوارع وإصلاح إنارتها. الكثير من السرادق نُصبت للمبيت، واستقرت المواكب المخصصة لصنع الطعام. آخرون قاموا بتأسيس الحمامات، وتجهيز أماكن الصرف الصحي. فباتت الساحة "ملاذاً يحتمي به المتظاهرون من الخطف والاستهداف في حال عادوا إلى منازلهم"، إضافةً إلى كونها منبراً لمطالبهم، حتى باتوا يسمونها في ما بينهم "جمهورية التحرير".

سجاد مصطفى، 25 سنة، فنانٌ وخطاط جاء من البصرة، جنوبي العراق إلى ساحة التحرير في بغداد. وباتت مخطوطة دائرية وسط نفق التحرير لمصطفى تستقطب الزوار لالتقاط الصور عندها. ابن البصرة وثّق، من خلال حروف الخط العربي، أسماء قتلى تظاهرات أكتوبر، وأعدادهم وتاريخ سقوطهم. ويقول مصطفى: "أنجزت العمل بالتعاون مع فريق مكافحة عبوات الغاز المسيّل للدموع في نفق التحرير، خصوصاً أنهم زوّدوني بالأصباغ وبأسماء الشهداء ممن سقطوا وهم يطالبون بوطنهم". ويضيف: "طريقتي بالتعبير تشبه جيلنا ورغبتنا بسلميّةٍ بحتة. لا بدّ للسلمية أن تتحقق، ومن دونها لن نحصل على أهدافنا التي ننشدها من خلال تظاهراتنا".

والساحة تضم أيضاً مكتباتٍ مخصصةٍ للقراءة منتشرة بين زواياها، إضافة إلى أخرى متوسطة داخل المطعم التركي بطوابقه الأربعة عشر. فضلاً عن تأسيس إذاعة وجريدة أطلق عليها تسمية "تك تك". تميُّز الجانب الإبداعي يتعارض مع الصورة النمطية التي أطلقتها بعض الجهات الحزبية للسلطة والمؤسسات الإعلامية التابعة لها في بداية التظاهرات، والتي تفيد بأن المتظاهرين ينتمون لطبقةٍ تفتقر إلى التعليم والثقافة. هذا ما ينفيه أحمد، وهو ناشطٌ مدني في بغداد، "التعبير بالفن والرسومات المنتشرة في ساحات التظاهر أظهر حالةً جامعةً للمحتجين من كل طبقات الشعب العراقي، بينها طبقة واعية مثقفة تتكوّن من فنانين وتشكيليين وطلبة وصحافيين".

وفي هذا الإطار، من اللافت أن جمهور ساحات الاحتجاج متنوعٌ، فمنهم المدنيون والعلمانيون الذين يمثلون التيار اليساري، ومنهم أبناء التيارات الدينية وأتباع المراجع، أبرزها التيار الصدري، ومقلّدي السيد علي السيستاني. هذا التنوع جعل طريقة احتجاجهم من خلال الفن غنية وقادرة على التعبير بفضاءٍ مفتوحٍ، يتقبّل الجميع ويطغى عليه الجانب الإبداعي الفني. إذ تتنوّع أصوات الموسيقى في ساحة التحرير بين موسيقى الراب واللحن العراقي الحماسي والأغاني والشعارات الحسينية التي تتغنى بــ"الغيرة الصدرية".

محتوى الجداريات والأغاني المنتشرة في ساحات التظاهرات لم تستخدم نبرة اللّغة الحادة. جاء بعضها جدّيا بشكلٍ مخالفٍ للتوقعات، رافعةً سقف المطالب السياسية في الشارع، وأخرى ثائرةً على العادات الاجتماعية بشكلٍ لافت، تتناول وجود المرأة وتتغنى بقوّتها وبجمالها بشكلٍ علني وسط تقبل اجتماعي. هذه الشعارات شجّعت الفتيات للمشاركة بساحات الرسم الحر، ووصل الأمر إلى فعاليات رقص الباليه والهيب هوب على أنغام كلماتٍ تنتقد السلطة الحكومية والأمنية.

فاطمة حيدر، 22 عاماً، شاركت في النجف بلوحةٍ، بعدما شجّعت والدها وعائلتها على التواجد معها في ساحة الصدريين. تقول فاطمة "لم أتوقع موافقة والدي على مشاركتي، حتى إنه لم يعترض على الصور الكثيرة التي التُقطت لي ولعائلتي وانتشارها عبر مواقع التواصل الاجتماعي". وتضيف "أشعر بالفخر. هدفي الضمني كان كسر الصورة النمطية حول منع انتشار صور المتظاهرات، وما يجب أن ترتديه النساء في النجف. خرجتُ من دون العباءة التقليدية، وشاركتُ مع أبناء جيلي بشكلٍ سلمي".

وترى فاطمة أن هناك اختلافاً في كيفية تعاطي المجتمع مع تواجد النساء ومشاركتهن الفنية بدعم من بعض العوائل، لافتةً إلى أن هذا "التغيير الفكري" سيستمر حتى بعد انتهاء التظاهرات "إنه انتصار جزئي تحققه الثورة، خصوصاً في النجف".

بدوره، والد فاطمة، حيدر شنون، يقول "أقدم أولادي قرباناً للوطن، ودوري مع فاطمة كان حمايتها الاجتماعية، هي شجاعةٌ وأنجزت كل شيءٍ بنجاح".

الرسم على الجدران أمرٌ لم يعتد العراقيون على رؤيته، على الرغم من محاولاتٍ فرديةٍ ومبادراتٍ شبابيةٍ كانت قد بدأت الرسم على الحواجز الكونكريتية، التي تقسّم شوارع بغداد وتعزلها عن بعضها، منذ عام 2003 وحتى تسلُّم رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي للسلطة، حين أصدر قراراً بإزالتها.

يقول سيزر الوردي، 28 سنة، وهو مصوّرٌ فوتوغرافي ويدير فريق "فن الشارع" في بغداد، "نُقدم أعمالاً فنيةً كثيرة، حُرمنا منها بسبب إجراءات السلطة الحكومية التي كانت تمنع تنفيذ هكذا مبادرات، وأبرزها فن الشارع"، ويستطرد "بدأنا قرب جسر الجمهورية بتنفيذ جداريةٍ بالخط المسماري تحمل لفظة السلام. سقطت بعد أن تم ضربنا بقنبلةٍ غازية، لكننا أعدنا رسمها". يقول سيزر "هي وسيلة اعتراضٍ على النظام الحكومي المتّبع، والذي أدّى بالبلد إلى ظروفٍ صعبةٍ. وهي ثورةٌ اجتماعيةٌ عملاقةٌ في ساحة التحرير، وبفضلها بدأ الوعي السياسي بالتصاعد". ويتفق سجاد وسيزر حول نظرتهما في حالة لم تثمر التظاهرات النتائج المنشودة. إذ يعتبران أنه "حتى لو لم تنجح الثورة، الأهم بالنسبة لنا، أننا اكتشفنا معنى الديمقراطية وطريقة الاحتجاجات السلمية، للمطالبة بحقوقنا المشروعة، ما يجعلنا على طريق تغيير الحكم بأيدينا، سواء الآن أو مستقبلاً".

Top